اليوم الصعب

ساعات قبل الوداع والرحيل الكبير
يوم الوداع كأنه من ايام الحشر..!
يوم سقوط عمود البيت الفلسطيني..؟!









ها قد مضى اربعون يوما على رحيل القائد والزعيم ياسر عرفات..؟! يبدو لي وللكثيرين احيانا ان الامر مجرد خيال وليس حقيقة.. واننا سنصحو ذات يوم واذا "بالفدائي الاسمر" يتجول في شوارع القدس ورام الله وغزة ونابلس وكل المدن الفلسطينية المحررة، ورايات الدولة الفلسطينية العتيدة ترفرف فوق اسوار القدس ومآذنها وكنائسها كما كان "الختيار" يردد دائما..

العالم على قدميه..!
كان العالم واقف على قدميه يترقب تطورات مرض الرئيس الراحل عرفات.. عندما وجدت نفسي مندفعا الى رام الله حيث المقاطعة التي نادرا ما زرتها بعد ان قلصت عملي في الصحافة الاجنبية والعربية الى اقصى حد.. والامل يحدوني مثل الكثيرين ان يتجاوز"ابو عمار" هذه المحنة التي المت به كما نجا من الموت الذي كان يترصده مرارا وتكرارا.. وكان الهاجس الذي يشاغلني هو:" كل شيء الا الختيار..!" وخاصة في هذه المرحلة الدقيقة والصعبة التي يتحين فيها "البولدوزر" الفرص للاجهاز على امل الفلسطينيين في اقامة دولتهم على ترابهم الوطني. ولم تفارق مخيلتي صورة التمني التي طبعتها في ذهني وتمثلت بصورة الرئيس عرفات قادما من فراش المرض الباريسي معافى تماما ويطل من على مدرج الطائرة كعادته رافعا يديه بعلامات النصر المعهودة.. يا الله.. كم كانت هذه الصورة ستغيظ الاعداء الذين اعلنوا وفاته واهالوا عليه التراب منذ وصوله الى باريس.؟!

لقد كان من الصعب علينا التصديق بأن ابو عمار سيرحل قبل ان تكتحل عيناه بمرأى الدولة الفلسطينية حلم حياته الذي نذر نفسه له دون تردد للحظة واحدة..! ولكن ما العمل وهذه ارادة السماء...! امضيت ليلتين في رام الله اساعد محطة تلفزيزنية اجنبية وانا اهذي بان الرئيس عرفات سيقوم من سريره كطائر العنقاء.. خاصة وانا اراقب تدفق المواطنين الى مقر المقاطعة في حالة من الترقب والحزن خوفا على حياة الرئيس الذي يمثل رمزا لشعب تعرض لاقسى محن التاريخ وويلاته وولاياته الامريكية والغربية..؟! كما كان الحضور الصحفي والاعلامي غير مسبوق من حيث العدد وتمثيل معظم دول العالم.. من فقيرة وغنية.. بل جاء بعض الصحفيين الاسرائيليين لمشاهدة حدث الوداع والرحيل الذي لم يوازيه في التاريخ المعاصر الا تشييع جثمان الرئيس الخالد جمال عبد الناصر.! فقد لمحت وانا متمترس فوق بناية شركة الاتصالات الفلسطينية الصحفي الاسرائيلي "داني روبنشتاين" على الارض في حديقة البناية..وكنت قد التقيت الزميل الصحفي ماهر العلمي مع المنتظرين من رجال الصحافة امام المقاطعة.. فتذكرت يوم ان حاول ترشيح نفسه للرئاسة.. فكدت اضحك في جو مآساوي حزين.. فينطبق علي المثل:" شر البلية ما يضحك".. ومما لفت نظري ان طابع التغطية الاعلامية خاصة التلفزيزنية قد نحت منحى انسانيا حتى لبعض وسائل الاعلام غير المتعاطفة مع القضية الفلسطينية وذلك ربما في تقديري لتأثر المراسلين بعمق الحب والحزن الذي يكنه الفلسطينيون لرئيسهم والذي كشف عنه رحيله المفاجئ والذي سيبقى عليه علامات استفهام كبيرة الى ان تظهر الحقيقة عارية تماما..؟! ولاحظت هذا المنحى بشكل واضح وانا استمع الى ما كان يبثه مراسل التلفزيزن الاسترالي-القناة التاسعة"مايكل آشر" الذي كنت اساعده، فبدأ تقريره مفعما بعبارات الثناء والتبجيل والاحترام لمشاعر الفلسطينيين الذين راحوا يبكون بحرقة فراق رئيسهم.. وفي احدى البنايات غير المكتملة والتي استولى عليها اعلاميو التلفزة.. شاهدت الصحفي خالد ابو عكر مزهوا مع التلفزيون الفرنسي-القناة الثانية الذي يعمل معه لان الموقف الفرنسي كان مشرفا جدا في تكريم الرئيس الراحل لدرجة ان عددا من مالكي العقارات وبعض الناس رفضوا اخذ مقابل من التلفزيون الفرنسي او اية وسيلة اعلامية فرنسية تقديرا للموقف الفرنسي العظيم.

يوم الطائرات..؟!كنت قد تعودت مثل غيري على استقبال الجماهير للرئيس عرفات وهو يحلق بطائرته زائرا محافظات الوطن..! اما هذه المرة فسيكون الاستقبال مختلفا تماما.. فبدلا من دموع الفرحة وصيحاتها ستكون دموع الحزن واهاتها.. في انتظار قدوم الجثمان الرئاسي ومنذ الصباح الباكر كانت مدينة رام الله محط انظار العالم ومهوى افئدة كل محبي الرئيس الخالد.. في اليوم السابق كنت في ساعات الفجر الاولى على دوار المنارة.. جاءني الصحفي وليد البطراوي من الـ"BBC" وسألني عن الرحيل المفجع فقلت له ان الخسارة كبيرة ولن تعوض ولكن الشعب الفلسطيني سيتجاوز هذه المحنة بمشيئة الرب. في دوار الساعة وساحة المنارة انتظم شبان مفجوعون برحيل القائد في مسيرات شبه عسكرية وهم يضربون الارض بأقدامهم بغضب وينادون بصوت وحركة مؤثرتين "يا قائد.. يا قائد..؟!".. ينادون على قائدهم وقائد الشعب الفلسطيني الذي غيبه الموت... كان الناس مشدوهون غير مصدقين ان ابا عمار يمكن ان يرحل ويتركهم في مثل هذا الظرف الصعب.؟! فرغم ايمانهم الشديد بالقضاء والقدر الا انهم لم يصدقوا بسهولة.. لان امام ابو عمار الكثير ليفعله من اجلهم..؟! عدنا الى المقاطعة التي تحولت الى هدف لاعين مئات الكاميرات العادية والتلفزيونية..!

دموع الفراق..!
كانت بعض النسوة القرويات يجلسن على مدخل المقاطعة ويرددن اناشيد حزينة في وداع القائد.. فيما كان بعض الشبان وعدد من الصبايا يبكون بصمت..! رأيت المئات من الصحفيين جاءوا من مختلف انحاء الدنيا.. ورأيت شبانا عاديين وسواق سيارات اجرة ونقابيين سابقين يساعدون ويعملون مع الصحفيين.. كانت جلبة الصحفيين والفنيين العاملين في وسائل الاعلام تطغى على المكان.. وهم يعتلون اسطح البنايات العالية المحيطة بالمقاطعة التي استولوا عليها بعد ان دفعوا لقاءها الكثير من المال.. هاتفني الصديق ايهاب الشنطي متسائلا عن صحة الاخبار بمحاولة دفن الرئيس في القدس، فنفيت له ذلك بعد ان استوضحت الامر من بعض المطلعين على الامور.

وما ان تنتهي الجمعة اليتيمة الاخيرة من رمضان والتي صادفت يوما قبل العيد.. حتى بدأ زحف الجماهير الحقيقي الى المقاطعة لالقاء النظرة الاخيرة على جثمان الراحل الكبير.. كان مشهد تدفق الجماهير من بين البنايات المحيطة بالمقاطعة وكأنهم سيول بشرية جارفة.. بعضهم هبط اودية وصعد هضاب وتلال رام الله حتى وصل الى المكان المنشود. وعندما تزدحم ساحة المقاطعة الفسيحة بالجماهير تبدأ موجات بشرية في اثر بعضها البعض في المدافعة بحثا عن موطئء قدم بعد ان فقد رجال الامن الفلسطيني السيطرة على الجموع الزاحفة.. كنت اراقب هذا المشهد من على سطح البناية وانا في حالة ذهول.. ورغم ذلك اثارني مشهد بعض الشبان الذين اعتلوا اعمدة الكهرباء والاشجار العالية واخرين احتشدوا على "سقيفة" حمامات شمسية على عمارة عالية وهم يهتفون للراحل الكبير في وضع يشكل خطرا على حياتهم فيما لو انزلقوا الى الاسفل..! كما شعرت بالحب والتقدير وانا المح مجموعات من شباب السواحرة من ابناء بلدتي جاؤوا من بعيد وهم يختلطون مع الجماهير الزاحفة.. وفيما صيحات الشبان وهتافاتهم تتعالى في السماء. والرايات والاعلام تخفق.. لاح شيء في السماء..!

اللحظة القاسية..
قد تكون من اقسى اللحظات في حياتي عندما اقتربت الطائرتان المصريتان للهبوط في المقاطعة.. بركان وانفجر من العواطف الجياشة والصرخات الثكلى.. فلم استطح حبس دموعي وانا اشاهد الجماهير تزحف على الطائرتين تريد ملامسة الجثمان الطاهر.. كانت لحظات صعبة ومفعمة بالأسى..! لقد كانت جنازة شعبية جماهيرية عارمة اكبر من كل الطقوس والبروتوكولات.. جنازة تحدثت عن نفسها.. ووداع هائل يليق بزعيم فذ.. شاء من شاء وابى من ابى.. ! وماذا بعد..؟! ووري جثمان الرئيس الخالد الثرى.. في قبر مؤقت.... وضع لينقل قريبا باذن الله الى مرقده الاخير في قلب القدس وفي المكان الاقدس منها الحرم الشريف.

مثل التائه الحزين عدت الى غرفة فندقي، وقضيت ليلة مسهدة..! في صبيحة العيد لا ادري كيف طاوعتني نفسي.. فهرولت صوب الضريح.. قرأت الفاتحة على روحه الباقية معنا.. سكبت دمعتين ووردة.. ثم يممت وجهي شطر القدس ولسان حالي يقول له.. الى اللقاء هناك.. وحتى ذلك الحين.. خطوت خارج المقاطعة كسيرا.. كيف لا وقد ضاع حبنا الكبير ودفن هناك..!

عيد الفطر الحزين..!امضيت يوم العيد شارد الذهن..! متسائلا بيني وبين نفسي: "هل انا في علم ام في حلم".. هل ذهب ابو عمار ولن يعود..؟! كانت مشاعري في حياة ابو عمار مختلطة.. فتارة اراه اهم زعيم على وجه البسيطة وتارة اخرى انساق وراء بعض معارضيه الذين كانوا يعتبرونه وراء كل ما حصل من ويلات للشعب الفلسطيني.. ولكنني اخيرا ادركت عظمة هذا القائد.. عندما رفض المساومة على حقنا التاريخي في فلسطين ورفض التنازل عن الاقصى والقدس وحق العودة رغم الضغوط الهائلة.. وانا اقول بكل بساطة، اي زعيم عربي مرفوض من اميركا واسرائيل، اعلموا انه محق وعلى حق.. ولكم في جمال عبد الناصر حسين وصدام حسين التكريتي الناصري اكبر دليل يا اولي الالباب.. تعلمت هذا الدرس من حماتي والدة الشهيد محمود موسى الحصيني التي فوجئت بها يوم العيد وقد رفعت الراية السوداء حدادا على ابي عمار.. فقلت لها: "لماذا فعلت ذلك وقد كنت من غير المتحمسين لسياسات الرئيس عرفات؟!". . فنظرت إلي مطولا ثم اجابتني باجابة تشبه اجابة والدة الشاعر الشعبي المصري احمد فؤاد نجم عندما سأل امه نفس السؤال لدى رحيل عبدالناصر:"عمود البيت وقع.. هل تفهم.. ماذا يعني ذلك"؟!. لقد صدقت يا اماه.. "عمود بيت فلسطين قد سقط".. فليحفظنا الرب

مشكور كثير اخوي فرسان الليل

يعطيك ألف عافية

و الله الياسر أسطورة لن يتكرر
تحياتي الك
تقبل مروري