عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (( حسبنا الله ونعم الوكيل، قالها إبراهيم صلي الله عليه وسلم حين القي في النار وقالها محمد صلي الله عليه وسلم حين قالوا إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل))([4] )رواه البخاري. وفي رواية له عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان آخر قول إبراهيم صلي الله عليه وسلم حين القي في النار: (( حسبي الله ونعم الوكيل)).
الشرح
وإبراهيم ومحمد_ علهما الصلاة والسلام_ هما خليلان لله عز وجل. قال الله تعالى: ( وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً)([5]) (النساء: من الآية125)، وقال النبي صلي الله عليه وسلم: (( إن الله قد اتخذ خليلا كما أتتخذ إبراهيم خليلا)) والخليل: معناه الحبيب الذي بلغت محبته الغاية، ولا نعلم إن أحد وصف بهذا الوصف إلا محمدا صلي الله عليه وسلم وإبراهيم، فهما الخليلان. وانك تسمع أحيانا يقول بعض الناس: إبراهيم خليل الله، ومحمد حبيب الله، وموسى كليم الله. والذي يقول: إن محمدا حبيب الله في كلامه نظر، لان الخلة ابلغ من المحبة، فإذا قال: محمد حبيب الله، فهذا فيه نوع نقص من حق الرسول عليه الصلاة والسلام، لان أحباب الله كثيرون، فالمؤمنون يحبهم الله، والمحسنون والمقسطون يحبهم الله، والأحباب كثيرون لله. لكن الخلة لا نعلم إنها ثبتت إلا لمحمد وإبراهيم عليهم الصلاة والسلام ، وعلي هذا فنقول: الصواب إن يقال: إبراهيم خليل الله، ومحمد خليل الله، ومسي كليم الله عليهم الصلاة والسلام. علي إن محمدا صلي الله عليه وسلم قد كلمه الله_ سبحانه وتعالى_ كلاما بدون واسطة، حيث عرج به إلى السماوات السبع. هذه الكلمة: (( حسبنا الله ونعم الوكيل)) قالها إبراهيم حينما القي في النار، وذلك إن إبراهيم عليه الصلاة والسلام دعا قومه إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وأبوا، و أصروا علي الكفر والشرك. فقام ذات يوم علي أصنامهم فكسرها، وجعلهم جذاذا، إلا كبيرا لهم، فلما رجعوا وجدوا آلهتهم كسرت، فانتقموا_ والعياذ بالله_ لأنفسهم. فقالوا ما نصنع يا إبراهيم؟ (قَالُوا حَرِّقُوهُ )(الأنبياء: من الآية68) انتصارا لآلهتهم ( وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ)(الأنبياء: من الآية68) فأوقدوا نار عظيمة جدا، ثم رموا إبراهيم في هذه النار. ويقال انهم لعظم النار لم يتمكنوا من القرب منها، وانهم رموا إبراهيم فيها بالمنجنيق من بعد، فلما رموه قال: (( حسبنا الله ونعم الوكيل)) فما الذي حدث؟ قال الله تعالى: (قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ)(الأنبياء:69)، بردا: ضد حر، وسلاما: ضد هلاكا، لان النار حارة ومحرقة ومهلكة، فأمر الله هذه النار إن تكون بردا وسلاما عليه، فكانت بردا وسلاما. والمفسرون بعضهم ينقل عن بني إسرائيل في هذه القصة، إن الله لما قال ( يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ)(الأنبياء: من الآية69) صارت جميع نيران الدنيا بردا! وهذا ليس بصحيح، لان الله وجه الخطاب إلى نار معينة ( يَا نَارُ كُونِي بَرْداً) وعلماء النحو يقولون انه إذا جاء التركيب علي هذا الوجه، صار نكرة مقصودة، أي: لا يشمل كل نار، بل هو للنار التي القي غيها إبراهيم فقط، وهذا هو الصحيح، وبقية نيران الدنيا بقيت علي ما هي عليه. وقال العلماء أيضا: ولما قال الله ( كُونِي بَرْداً) قرن ذلك بقوله: ( وَسَلاماً ) لأنه لو اكتفي بقوله: ( بَرْداً) لكانت بردا حتى تهلكه، لان كل شئ يمتثل لامر الله عز وجل، انظر إلى قوله تعالى: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً )(فصلت: من الآية11) فماذا قالتا: ( قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ)(فصلت: من الآية11)، ( قَالَتَا أَتَيْنَا) منفادين لامر الله عز وجل. أما الخليل الثاني الذي قال: ( حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) فهو النبي صلي الله عليه وسلم وأصحابه، حين رجعوا من أحد، قيل لهم: إن الناس قد جمعوا لكم، يريدون إن يأتوا إلى المدينة ويقضوا عليكم فقالوا: ( حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ). قال الله تعالى: (فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ)(آل عمران:174) فينبغي لكل إنسان راء من الناس جمعا له، أو عدوانا عليه، إن يقول: (( حسبنا الله ونعم الوكيل)) فإذا قال هكذا كفاه الله شرهم، كما كفي إبراهيم ومحمدا عليهما الصلاة والسلام، فجعل هذه الكلمة دائما علي بالك، إذا رأيت من الناس عدوانا عليك فقل: (( حسبي الله ونعم الوكيل)) يكفك الله عز وجل شرهم وهمهم. والله الموفق.